Wednesday, November 13, 2013

أثقل من رضوى...


تهزمني رضوى عاشور مجددا. أفارق كتابها الأخير مثقلة وأنا لا أعلم ما العمل الآن بكل هذه التفاصيل والحكايات. أنتهي من قراءة كتابها الأخيرة وهي مقاطع من سيرة ذاتية...ولا أجد شيئا لأقوله اطلاقا. كانت  رضوى عاشور رفيقتي في بعثتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية حينما اصطحبت معي كتباها (سيرة ذاتيه ايضا) "الرحلة: أيام طالبة مصرية في أمريكا". كتبت هي عن الدراسة والبلد والغربة وكل شئ..حكت عني رغم أن رحلتها سبقتني بعقود. ولكنها سردت كل التفاصيل والأوجاع ولحظات الانتصار. وها هي الآن..تحكي عن كل شئ: الثورة، الألم، محمد محمود، جامعتي عين شمس، عن أمين حداد وآل جاهين، عن صديقي أحمد جمال، عن الحلم والأمل والوطن...عن رحلتها العلاجية التي كنت على علم بها من قبل القراءة عنها..عن تفاصيل كانت تحكيها لي زميلتي وصديقتي ندى حجازي وأجدها بين يدي في "أثقل من رضوى"..فيصبح كل هذه التفاصيل أثقل مني كذلك. 

لا يعلم الكثير أن القراءة كانت عبئا  نفسيا كبيرا عليّ في السنوات الأخيرة. توقفت عن القراءة إلا ما له علاقة بدراستي، لم أعد اشتر كتبا جديدة إلا فيما ندر وليس بنفس الحماس. ولم أعد أتلهف على حفلات توقيع ومقابلة الشخصيات الطيبة- أصدقائي عبر صفحات كتبهم، ولا أقرأ سوى الكتب التي حفظتها عن ظهر قلب حتى تؤنسني وتبدد الوحشة وتذيب الألم الذي لم أعرف مصدره.

إلى أن عرفت بصدور كتاب جديد لرضوى عاشور..هنا فقط تحمست بلا سبب محدد. (أو ربما كنت أعلم السبب في أنه كتاب يحمل سيرة ذاتية لرضوى عاشور وأنا أعرف أن لها قواها السحرية التي تضمد الجروح رغم كل شئ). بدى لي حينها أن العلاج فيه. أن هذا الثقل الغير معلن على صدري سوف يذوب. أنني سأعود إليّ وأقرأ. وقد كان. آتاني الكتاب هدية في صباح 26 من أغسطس لهذا العام. وبدأت القراءة من حينها. أنجزته في بضع مرات ولكن فترات التوقف هي التي كانت تطول أحيانا..ثم أعود واقرأ بنهم وبلا توقف..حتى أنهيته اليوم. 



رافقني الكتاب في التاكسي، في قاعات انتظار المحاضرات، قبل محاضراتي، في كل مكان--الكتاب في حقيبتي دائما. لكن ما فاجئني حقا هي المصادفات التي وجدتها تلفني أنا والصفحات .

حينما تحدثت رضوى عاشور عن علاء عبد الهادي ود.علاء فايز كنت حينها في كلية الطب احضر أحد الدورات التدريبية لأعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة. أتوقف أمام تلك المفاجأة وأنا اقرأ عن النصب التذكاري لعلاء عبد الهادي بكلية الطب.. وأكتب في الهامش: "أنا هنا في كليته". ثم أتوقف عن القراءة.. لأعود وأنا أتهيب هذه الأيام التي تحمل ذكرى محمد محمود.. فأحتمي من الألم بالقراءة. فإذا برضوى عاشور تحكي الآن حالا (مصادفة؟؟) عن تفاصيل محمد محمود وماتلاها-- بكل التفاصيل التي نعلمها ولا نعلمها.. بكل الوجع الذي يتشبث بالروح. ألتقط أنفاسي بصعوبة في كلا المصادفتين. أفكر في التوقف عن القراءة..ولكنني أستمر. 

تصالحني رضوى بفصل كامل عن أحبائي "الحدادين والجواهين" كما تقتبس هي عن مريد البرغوثي. .آل حداد وآل جاهين. تصف فؤاد حداد على مسرح الجمهورية فأبتسم. فأنا أعرف الجاكت الكحلي والكوفية وأمين حداد يقف في الخلف ثم إلى جوار والده.. جلسة فؤاد حداد، وضعية كفه على رجله. تتوسع ابتسامتي. أعرف الحفل، أعرف المشهد، أحفظ الصور تماما. "يا الله على الجمال" أرددها ثم أكررها حين تحكي عن محمود درويش. "صالحتني رضوى عاشور بعد تجدد آلام محمد محمود"، أقول لنفسي.

حكت رضوى عن جامعتي، عن أحداث حضرتها أو تابعتها عن كثب. نكشف الجرح سويا. ثم تضمده أو لا .  فقط تستمر هي بالحكي، وأنا استمر بالقراءة.

أبكي حينما سردت قصة شعبان مكاوي ثم وفاته رغم أني لا أعرفه. تصف تماما ما شعرت به حين مررت بتجربة الرنين المغناطيسي بالصبغة وأكتب إلى جوار هذه الفقرة: "حرفيا". تأخني سيرا  إلى ميدان التحرير وشارع محمد محمود والجرافيتي من حولنا. تتحدث عن أصدقاء لي ومعارف. تذكرني بمتاحف في نيويورك وأماكن بواشنطن دي سي. تؤكد على أسامي شهداء نحفظهم عن ظهر قلب. ودائما بين كل هذا وذاك ترسم ابتسامة من اللامكان.


"الأمل حالة مستقبلية . الأمل غدا"

أنتهي من القراءة، مع الكثير من الملاحظات والتعليقات في الهوامش، مع القصاصات الملونة الملصقة على أطراف الصفحات، مع ثني طرف الصفحات الأخرى. أنتهي من القراءة بعد أن تركت لنا رضوى بين ثنايا هذا الكتاب شهادات هامة، وحكايات عن وجوه نعلمها أو لا نعلمها، بعد أن باحت بما أثقل صدرها على النحو الخاص والعام... فعلت كل هذا وهي تمسك بيد قارئها وتنهي آخر صفحة بابتسامة أمل.

"هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، مادمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا"
(آخر سطر في نهاية الكتاب)