قابعاً بركن الغرفة, في ذلك الكرسي الوثير... يحدثني من بين دخان سجائره.ه
.
هو ... يمتلك ذلك الصندوق الذهبي الممتلئ بحكاياته السحرية... بصوته الهادئ..و حركة يده التلقائية ليطفئ سيجارته الثانية... يرتحل بي الي ازمنة احياها فقط بين سطور "حواديته"...و تلك اللمعة بعينيه!ه
.
اجمل لحظاتي حينما نسيرمعاً.. ممسكاً بيدي..او ذراعه حول كتفي... و نستمع الي اغاني عبد الحليم..! ثم ننتقل الي فيروز و نجاة الصغيرة...و منير! ثم يحدثني عن قصيدة شعر لجورج هربرت...واخري لمحمود درويش..!نشاهد فيلماً لجوليا روبرتس و اخر لتوم هانكس.. ونجلس كناقدين فنيين نحلل تلك التفاصيل الصغيرة. انها دومًا "التفاصيل الصغيرة"!ه
.
لن تسأم من سماع حكاياته عن أيام الدراسة..وبداية التحاقه بالكلية..التي طالما رفضها! تعجبت كثيرًا.. فانبهاري به كان سبباً في تلك الرغبة بداخلي وانا ذات الاعوام الخمس ان اكون مثله.. مثل أبي..في طلاقة لسانه.. في لغته الانجليزية السلسلة.. في عشقه للكتاب... للتاريخ... للادب ..لشكسبير... لكل ما أحبه اليوم! لذلك جعلت هدفي هو الالتحاق بالكلية و العالم الذي علمه حب الحياة.... ! او هكذا كنت أظن!ه
.
يقولون أني اشبهه كثيراً..او كذلك "تتهمني" امي بأني "نسخة اخري" في الطباع و الشخصية... الكوب النظيف...الوسوسة الزائدة .. هاجس المرض.. الهدوء القاتل الذي قد يمتد الي برود احيانًا... ولكنهم لا يعلمون ان بداخل كل منا ناراً متقدة من المشاعر نخفيها تحت ذلك الوجه الهادئ...وهذا سر اشاركه مع ابي..حتي وان لم نصارح بعضنا البعض به!ه
.
سيحكي لك عن نوادره في الكلية..وعن سوزي و منال و هاني رمسيس و احمد و عن فاطمة و عن ماري وسيد و...وعن اخرين! سيزيد عليهم محاضرات يتذكرها كأنها كانت امس..لمرتضي و نعيم و بثينة و جرجس... و اخرون! ثم يخطفني الي حفلات اوركسترا القاهرة السيمفوني.. و المسرح..و حينما كان يحضر عروضاً علي المسارح القومية.. و يدفع خمس و عشرون قرشاً فقط لا غير..و ان هناك عرض "سوبرانو" قد حضره بثلاثة عشر قرشا! ..ولا مجال لمقارنة الاسعار!ه
.
لم أر جدي و جدتي لابي قط! ...ولكنني اراهما في ذات الوقت! رغم ان نبرة صوته لا تتغير..و سجارته الرابعة يطفئها..و رائحة التبغ تغلف المكان... الا انني ألحظ ذلك الحزن.. ذلك الاشتياق اليهما! تعلمت ان اشتاق الي جدي و جدتي ..من ذكرياته! "هو جدو شافني يا بابا؟" هكذا سألته ذات مرة فأخبرني انه توفي قبل مجيئي الي هذه الدنيا..في الحقيقة توفي في اولي سنوات أبي العشرين..لكن بنبرة سعيدة يقول لي ان جدتي قد شهدت مولدي... فابتسم! فاتمني سراً ان يكونوا فخورين بي....! "دي مدافن جدك و جدتك.. "...هكذا قال لي ونحن في طريقنا بالسيارة ذات يوم.. مارين من بعيد علي ذلك الشكل المهيب..المقابر! وأعقب ذلك التعليق..بعض الصمت..و تمتمة الفاتحة! .... اراهما!ه
.
"بابا جاب لنا غزل بنات"...هكذا بدون سابق انذار..كأنما يأتي من أرض البهجة البعيدة! "الهولز" و السجائر و موسيقي هادئة في السيارة... جو أبي المفضل... اعظم ما علمني اياه "التمشية ع النيل"... اما اطرف ألعابنا هي "البحث عن الحلبسة"... ترسخ في أذهاننا صغارا ان الحلبسة ما هي الا كائن صغير ذي فرو.. مختبئ في مكانا ما تحت "البطانية".. و سيبحث بابا عنه بوسيلته التعذيبية المفضلة...."الزغزغة" فقط لايقاظنا مبكرا!! بالطبع لم أعلم ان الحلبسة ما هي الا حمص الشام مشروب أبي المفضل ...الا منذ أعوام قلائل!!ه
.
ذكرته ان بحلول هذا العام يكون ثلاثون عاماً قد مضت علي تخرجه... علي تخرجه من ذات الكلية التي التحقت بها و تخرجت منها! في نفس العام الذي ابدأ انا الاخري حياة جديدة!... تعجبت لتلك النظرة بعينيه لوقع تلك الكلمات القليلة..." ثلاثون عاماً"ه
"ثلاثون عاماً".. كأنه استغرب مضي كل ذلك الوقت من يوم مكتب التنسيق وهو في حيرة و تردد في الالتحاق بكليتنا...كلية الالسن!.."كأنه كان امبارح"...و يصمت..ولكن عيناه تبوح بالكثير... و يشغل لفافة تبغ خامسة..متمنياً لي التوفيق لما بدأته الان!ه
.
بشعرياته الفضية..والتي يؤكد انها ليست لها علاقة بتقدمه بالسن ..استقبل "بابا" صباحا عامه الجديد..وقبلة حانية من طفلة صغيرة علمها يوما ركوب العجل..و زيارة مكتبات وسط البلد..وهدوء الاعصاب..و "غزل البنات"!ه
.
.